الجمعة، 17 فيفري 2012

بين التدين والوطنية


                                                



يبدو أن التونسي يعيش مشكلة واضحة مع الإستهلاك المحلي في كل المجالات والغريب أنه لم يستثني مجال التدين. وتعود هذه الظاهرة إلى عديد الأسباب التي يطول شرحها وساكتفي بذكر سببين الا وهما هجمة التدين التي اكتسحت شاشتنا في بداية الألفية الثانية وفي المقابل سياسة التفقير الديني التي توخاها النظام السابق. شهدت تونس بعد الثورة العديد من الزيارات والتضاهرات الدينية استقبلنا حينها بعض رموز الشاشات الدينية في حركة فكرية فريدة غابت عن ارضنا لعقود ولكن استغلها البعض من الضيوف أو المستضيفين لتكون حلقات تجييش مشاعر خالية من كل معنى فكري ديني.

سأكتفي بالتطرق إلى الزيارة الأخيرة التي يقوم بها وجدي غنيم الذي يعرف بمواقفه الحادة ومساندته لقضايا كبرى ولكن لعل أكثر ما يميزه رفضه القاطع للديمقراطية وعليها يبني قائمة مطولة من المرفوضات المحرمات مع شح في الحلول وهذا حال معظم علماء ألدين في هذا العصر. شهدت المحاضرة حضورا غير عادي انتابته حماسة غير عادية وكأننا على أبواب حرب فلا تمر لحظات إلا ويهتف الجمهور بشعارات الرفض والتكبير فتكاد تنسى أنك بصدد السماع لمحاضرة رأي إذ يبدو أن كلماته تنزل من السماء وليس هناك حاجة حتى لسماعها ثم يحاول المحاضر بروح من الفكاهة التي لا تفسد في الود قضية ليخفف ما إستطاع على جل الوجوه الحانقة والحناجر المبحوحة. ستسألوني هل هناك من جديد ... لا جديد يذكر ... هو حال جل علماء الأمة يعيشون أزمة التكرار وتكبلهم انتماءاتهم ومذاهبهم ... في الأصل المحاضرة لم تنظم لحضور نظرة جديدة للواقع غير المألوف بل قامت على نفس أفكار الأمس لتجييش المشاعر و كأنه كتب علينا الجمود و التصلب في أحسن أحوالنا.

إن أكثر ما يؤلمني هو رغبة كل الأطراف في الاستفادة من هذه المواقف ، علمانيين اسلاميين سلفيين بدون إستثناء أما الطرف الأول فهو كما عودنا لا يفلت هكذا فرصة ليبث الأكاذيب والفزاعات أما الطرف الثاني فيتربص بالأول ويستفيد من حماقة حيله أما البقية فلا أراها البتة مدركة لما يحدث فقد الهاها الصراخ وتمجيد العلماء، في الحقيقة هي فرصة ليعبر كل عن وجوده وكأنه لا وجود لفرقة إلا بوجود اخرى. أما ما يفرحني فهو صحوة بعض العلمانين الذين اصبحوا يستنجدون بعلمائنا "المحليين" عملا بمقولة "شد مشومك راهو جاك ما أشوم". طبعا هذا من باب الانتهازية لا أكثر ولا أقل وهو ما عودنا به هؤلاء.

اعتبر أن ما صدر عن الشيخ وجدي غنيم مزعج لعدة أسباب منها الشكلية  ومنها المضموني.من الناحية الشكلية فانه من الواضح أن الخطاب موجه ومركز للنيل من فئة معينة بنعتها باشنع النعوت والدعوة لها بالموت على المنابر. لا يهم من البادئ إذ أنه لا يخفى على أحد تعصب غنيم و طريقته في الحديث بالسخرية تارة وبالتشنج والشتم تارة اخرى، هو لم يأتي ليشتم الناس في بيوتها بل جاء داعيا لله ثم كيف لداعية أن يشتم المدعوين قبل دعوتهم ... أما مضمونا فأعتقد أنه أخل بآداب الضيافة فصار ينظر في كل المواضيع دون أن يلقي بالا بالواقع الذي يمر به المجتمع التونسي من تفكك وتشتت. إن لكل مقام مقال وان الأخذ بمقتضيات الواقع ضرورة فقهية.

ما أشد حاجتنا لخطاب معتدل بعيد عن الدغمائية يسأل العقول ولا يسرق القلوب ، خطاب يحببنا للخير الانساني ولا يشغلنا فقط بكره الشر ، خطاب التخصص دون تجني على ما نجهله من العلوم، خطاب البحث عن الحقيقة لا التوهم بإمتلاكها...


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق